مقال بعنوان: (الا له الخلق والأمر)... بقلم: أبي عبدالله فهمي البوري
الا له الخلق والأمر
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله
من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا ,من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له,
واشهد أن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, واشهد آن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}آل عمران(102){يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما
رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء(1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً}الأحزاب (70-71)
فان خير الحديث كتاب الله, و خير الهدي هدي محمد صلى
الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة و كل ضلالة
في النار)) .
وبعد :
قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}الفرقان(2) أي أنه خلق كل شئ وقدر لكل شي مما خلق بحكمته على ما
أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد
القيامة، فهو الخالق المقدر, والتقدير سابق للتصوير, فالله قدر المقادير قبل خلقها,
وعلمها قبل تقديرها ثم خلقها على مقتضى ,العلم والتقدير فلا تخرج عن ذلك النظام
وذلك الإحكام.
قال الأول:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري
أي: تقدر ما تقدر ثم تفريه، أي تمضيه على وفق تقديرك،
وغيرك يقدر ما لا يتم له ولا يقع فيه مراده، إما لقصوره في تصور تقديره أو لعجزه
عن تمام مراده.
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى
الْمَاءِ)مسلم(2653)
ثم هي ماضية على هذا التقدير الحكيم, {عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ
وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ
مُبِينٍ}سبإ(3), فهو العالم بما خلق ولا
يخفى عليه شي مما هو كائن, ومما ليس بكائن لو كان كيف يكون, كل ذلك (فِي
كِتابٍ مُبِينٍ) , إليه خلقه وإليه أمره
إن لله كل الأمر في كل خلقه ... ليس إلى المخلوق شي من
الأمر
ألا ترى إلى قوله: { يَقُولُونَ
هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}
آل عمران(154), يعني القدر خيره وشره من الله, فلا ينزل بك نازل, ولا يرتفع عنك لازم إلا
بأمره سبحانه وتعالى قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر}الأعراف: (54), فإذا تقرر ذلك في نفس العبد علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وما أخطأه لم
يكن ليصيبة, وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جَفَّ القَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاَقٍ)
أي جف القلم بما أنت لاق أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ فبقي القلم الذي
كتب به جافا لامداد فيه لفراغ ما كتب به, فلا تنفع الحيل, فإن أمكن للعبد فعل
الأسباب المشروعة, فأنه لا يجنح للتوكل إلا بعد فعلها لئلا يخالف الحكمة, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}النساء(71). وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}الأنفال(60). وقال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوَى} البقرة(197). وقال تعالى: {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ
وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ
مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}يوسف(67), فأمر بالسبب وهو أخذ الحذر, وأخبر بأنه متوكل على ربه
جمعا بين الواجبين, وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ،
خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ
احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ
أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا،
وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ
الشَّيْطَانِ)مسلم(2664), (فهذا أمر بالحرص على الأسباب النافعة في
الدين والدنيا، مع الاستعانة بالله. لأن هذه: الاستقامة.
وذلك أن الانحراف من أحد أمور ثلاثة:
1- إما أن لا يحرص على الأمور النافعة؛ بل
يكسل عنها وربما اشتغل بضدها.
2- أو يشغل بها، ولكن يتكل على حوله وقوته،
وينظر إلى الأسباب ويعلق جميع قلبه بها، وينقطع عن مسببها.
3- أو لا يشتغل بالأسباب النافعة يزعم: أنه
متوكل على الله، فإن التوكل لا يكون إلا بعد العمل بالأسباب.
فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه
وسلم الطرق النافعة للعباد. )الدرة البهية للسعدي1/102
فإن لم يقدر على فعلها وطن نفسه على الرضا بما قدره الله
عليه, ولا يتكلف من الأسباب ما لا طاقة له بها, وليعلم أن الأسباب إن لم تصادف
القدر لم تنفع.
فحينها ينزل على القلب برد التوكل الذي من
أعظم ثماره حصول الطمأنينة في زمن الخوف, قال تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل }آل عمران(173),
وقال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ
قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجاهِلِيَّة}, فعن أَنَسٌ،
أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ، قَالَ: (غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا
يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ
وَآخُذُهُ), حتى نام أكثرهم، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام, ولذلك لما عرت
قلوب الطائفة الأخرى من التسليم والتوكل بعد ضرب السبب, وهم المنافقون الذين { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على
الحضور، و { يَظُنُّونَ
بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّة}, ويقولون { لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا
هاهُنا}, وقد أوتوا من باب القدر الذي تضعضع في
قلوبهم, فرجعوا الى حولهم وقوتهم، واعتمدوا على الأسباب وعلقوا قلوبهم بها، وانقطعوا
عن مسببها. فقال تعالى: { قُلْ
إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}, يعني القدر خيره وشره من الله. ثم رد الله على مقولتهم بقوله: { قُلْ
لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ
إِلى مَضاجِعِهِمْ} أي كتب عليهم في اللوح المحفوظ انهم يقتلون, فلا مفر من أمره ,
قال نفيل بن حبيب
أين المفر
والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
ومرد هذه النوازل والفتن والبلايا هي الابتلاء والاختبار,
ليعلم صدق الصادق وكذب الكاذب ,قال تعالى: { وَلِيُمَحِّصَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ }آل عمران(141), أي يخلصهم من ذنوبهم بصدقهم وصبرهم وثباتهم, ويهلك الكافرين ويستأصلهم لذا
قال تعالى: { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} ,
أي ما فيها من خير وشر.
فوجب على العبد التوكل على الله وتمكينه من
قلبه, وتمكين الجوارح بفعل الأسباب الشرعية, والتسليم الكلي لأمر الله تعالى وقدره والرضا به, فإذا ما فعل ذلك ظاهرا وباطنا طاب له دينه
وطابت له دنياه, فلا يفزع حين يفزع الناس ,قَالَ تعالى: {وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ
جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} الطَّلَاقِ(3), أي قاض أمره
فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه يعظم له الجزاء ويكفر
عنه الخطأ قد جعل الله لكل شي من شر وخير أجلا ينتهي اليه.
والحمد لله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق