خطبة مكتوبة: أسئلة هرقل لأبي سفيان عن نبينا صلى الله عليه وسلم ..بقلم ابي عبدالله فهمي البوري
خطبة جمعة
حديث هرقل مع أبي سفيان
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا ,من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, واشهد أن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, واشهد آن محمدا عبده ورسوله.
(يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون)
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)
(يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
فان خير الحديث كتاب الله, و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار)) .
وبعد :
فإن الله يؤيد أنبيائه بالمعجزات الممكنة عقلا الخارقة للعادة ليظهر صدق نبوتهم وصحة رسالتهم, فتعجز الأمة على الأتيان بمثلها على الصورة التي كان التحدي بها, قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)الاسراء88 , وكتكليم الحيوانات وخروج الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر, والدعا على الماء القليل والطعام القليل ثم يكفي القوم الكثيرة من الناس, فلما كان من شأن قيصر أن لايطلع على مثل تلك المعجزات, عمد الى معرفة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم , مما قد سبروه من أخلاق الانبياء في معاملتهم والسير في دعوتهم وما وجدوه في كتبهم.
وهذه وقفات مع حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح البخاري 7 من سؤالات هرقل لأبي سفيان حال كفره وهو ببلاد الشام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من ذلك:
أن ابا سفيان بن حرب :وهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبدمناف.
وأن هرقل: هو ملك الروم, وهرقل: اسمه, وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف, ولقبه قيصر.
أرسل اليه في ركب من قريش: أي في جماعة منهم حينما بلغه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها ابا سفيان وكفار قريش أي مدة صلح الحديبية, فأتوه بأيليا , وايليا معناها بيت الله, فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم, ثم دعاهم ودعا بترجمانه, بفتح التاء وضم الجيم, ويجوز الضم فيهما , ويجوز الفتح فيهما ايضا, وهو المعبر عن لغة بلغة.
فقال ايكم اقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم انه نبي: وهذا قول الترجمان على لسان هرقل, فقال ابوسفيان فقلت انا اقربهم نسبا وهذا يدل على ان هرقل كان رجلا فطنا, وانما طلب الاقرب نسبا (لانه احرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره, ولان الابعد لا يؤمن ان يقدح في نسبه بخلاف الاقرب وظهر ذلك في سؤاله بعد ذلك)الفتح1/43 ولان طعنه فيه طعنه في نفسه. وابو سفيان يلتقي نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الاب الرابع وهو عبد مناف .
فقال: ادنوه مني وقربوا منه اصحابه واجعلوهم عند ظهره اي لئلا يستحيوا ان يواجهوه بالتكذيب إن كذب.
قال: فوالله لولا الحيا ان يؤثروا علي كذبا لكذبت عليه, وهذه من اخلاق العرب العظيمة في جاهليتها فضلا عن اسلامها, وفي الحديث عن ابي هريرةرضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لاتمم صالح الاخلاق)قال ابن عبد البر هو حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة و غيره. , فالعرب لم تكن كل أخلاقها سيئة بل عندهم من المكارم وهذه منها. وهو يعلم انه لو كذب لم يكذبوه لاشتراكهم في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ولكني كنت امرئ سيدا اتكرم عن الكذب.
ثم كان اول ماسألني عنه: أن قال: كيف نسبه فيكم ؟ قلت هو فينا ذو نسب.....فقال لترجمان: قل له سألتك عن نسبه فذكرت انه فيكم ذو نسب, فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها, (والظاهر ان إخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرر عنده في الكتب السالفة)الفتح1/45 ولا انه رجل يصنع لنفسه مجدا وشهرة,
ولان قوة النسب أدعى للقبول , لاسيما في قلوب اقوام تشربت قلوبهم بلوث الجاهلية.
قال: فهل قال القول منكم احد قط ؟ قلت: لا.... فقلت لو كان احد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله. ولأن القول يبقى وصاحبه قد يموت, فيأتي من بعده فيعجبهم فيحيونه, وكم من الاقوال والمعتقدات الباطلة التي ماتت ومات اصحابها, ثم يأتي أناس في هذه الازمان فينعشونها ويفتنون الناس بها.
قال: فهل كان من ابائه من ملك ؟ قلت: لا ....قلت: فلو كان من ابائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك ابيه.
(من ملك) بكسر ميم من وكسر اللام وكذا فتح ميم من وفتح اللام , وكلها تؤدي لمعنى واحد, والحامل رغبة في الجاه والملك وثأرا لما لحق الملك واهله.
وفي ذلك يقول امرئ القيس حينما ذهب يطلب ملك أبيه:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه****و ايقن انا لاحقان بقيصــــــــــــــــرا
فقلت له لا تبكـــــــــــــــــــــي عيناك إنما****نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفأؤهم ؟ فقلت: بل ضعفاؤهم.... وهم أتباع الرسل.
والمراد بالاشراف هنا أهل النخوة والتكبرمنهم , لا كل شريف, حتى لا يرد مثل ابي بكر وعمر وامثالهم ممن اسلم قبل هذا السؤال...وهو محمول على الاكثر الاغلب)الفتح1/44 , (وانما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الاشراف وصعوبة الانفكاك عنها, والانفة من الانقياد للغير, والفقير خلي من تلك الموانع, فهو سريع الى الاجابة والانقياد. وهذا غالب احوال اهل الدنيا)تفسير القرطبي5/354 . وفي الحديث:عن ابن عباس رضي الله عنهما (اطلعت في الجنة فرايت اكثر أهلها الفقراء)البخاري3241 ومسلم2838 .
قال أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت: بل يزيدون....وكذلك أمر الايمان حتى يتم. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابي هريرة فقال: ( بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ)مسلم145 قال النووي: (قال القاضي: وظاهر الحديث العموم, وأن الاسلام بدأ في أحاد وقله, ثم انتشر وظهر ....)شرح مسلم, وقال تعالى: (اذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا).
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت لا....وكذلك الايمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وقوله سخطة ) بضم اوله وفتحه, واخرج بهذا من ارتد مكرها, او لا لسخط لدين الاسلام بل لرغبة في غيره كحظ نفساني)الفتح1/44, وبشاشة القلوب وهو اللقاء الفرح والانشراح به , فإذا خالط الايمان بشاشة القلب فإنه لا ينفك عنه الا أن تذهب الروح معه, وفي الحديث: عن خباب بن الارت (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الارض, فيجعل فيها, ثم يؤتى بالمنشار, فيوضع على رأسه فيجعل نصفين, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه)البخاري6943 .
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت لا....فقد اعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
والمراد في حديث الناس, لان السؤال عن صدقه قبل ان يدعوهم الى الاسلام, وعبر بالتهمة له من جهتهم ولم يصرح بالتكذيب له, تقرير منه بصدقه, واذا انتفت التهمه انتفى سببها. فقد كانوا يسمونه قبل أن يبعث اليه بالصادق وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما (...أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم, أكنتم مصدقي ؟ قالوا: ما جربنا عليك الا صدقا..)البخاري4770 .
قال: فهل يغدر ؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة....وكذلك الرسل لا تغدر.
(اي انتقصه بها... ومع ذلك لم يلتفت هرقل لمقولته تلك, وقال: وكذلك الرسل لا تغدر, لانها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر , بخلاف من طلب الآخرة)الفتح44,46 .
وفي الحديث: (ولما جئ بعبدالله بن سرح –وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ارتد ولحق بالمشركين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله- الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, بعد ما إطمأن أهل مكة وطلب له الامان عثمان رضي الله عنه, صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: نعم فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما صمت الا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه), فقال رجل من الانصار: فهلا أومأت الي يا رسول الله, فقال: (إن النبي لا تكون له خائنة أعين)الصحيحة1723 .
الخطبة الثانية:
قال: فهل قاتلتموه ؟ قلت نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه.
والسجال: بكسر أوله, أي نوب, والسجل الدلو, فتارة له وتارة لنا, وهكذا إقتضت حكمة الله قال تعالى: (وتلك الايام نداولها بين الناس), (قيل: هذا في الحرب , تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه, ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم, فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون)تفسير القرطبي3/116 . ولو كان النصر للمسلمين دائما لدخل الناس في الدين , ولما تميز المبطل من الصادق و لا المؤمن من المنافق, قال تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)ال عمران141 .
قال ماذا يأمركم ؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة.
وقوله: ولا تشركوا به شيئا, غمز بدين النصارى الذي يقول بالتثليث, قال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة), فيستثير بها هرقل على النبي صلى الله عليه وسلم, وهنا لم يبين ابو سفيان مراده كما بين في الاولى, ولعله لم يرد الا شرح ما وجد من دعوت نبينا صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر من مكارم الدين الذي يدعوا إليه ولعله من المألوف عندهم .
ثم قال هرقل: (فان كان ماتقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين, وقد كنت أعلم أنه خارج لم اكن اظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص اليه لتجشمت لقاءه – أي تكلف الوصول اليه – ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه – مبالغة في العبودية له والخدمة – ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية الى عظيم بصرى فدفعه الى هرقل فقرأه.
قال ابوسفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب – وهو اللغط واختلاط الاصوات في المخاصمة – وارتفعت الاصوات وأخرجنا, فقلت لاصحابي حين أخرجنا: لقد أمر – بفتح الهمزة وكسر الميم أي عظم - أمر ابن أبي كبشة – والمراد التنقص من النبي لأن عادة العرب إذا إنتقصت نسبت الى جد غامض, فقيل هو جده لأمه, وقيل هو جد عبدالمطلب لأمه, وقيل أبوه من الرضاعة وقيل غير ذلك – إنه يخافه ملك بني الاصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الاسلام.
ثم كان من أمره أن قال لقومه: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي, فحاصوا حيصة حمر الوحش الى الابواب فوجدوها قد غلقت, فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الايمان قال: ردوهم علي وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت . فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل.
حديث هرقل مع أبي سفيان
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا ,من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, واشهد أن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, واشهد آن محمدا عبده ورسوله.
(يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون)
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)
(يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
فان خير الحديث كتاب الله, و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار)) .
وبعد :
فإن الله يؤيد أنبيائه بالمعجزات الممكنة عقلا الخارقة للعادة ليظهر صدق نبوتهم وصحة رسالتهم, فتعجز الأمة على الأتيان بمثلها على الصورة التي كان التحدي بها, قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)الاسراء88 , وكتكليم الحيوانات وخروج الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر, والدعا على الماء القليل والطعام القليل ثم يكفي القوم الكثيرة من الناس, فلما كان من شأن قيصر أن لايطلع على مثل تلك المعجزات, عمد الى معرفة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم , مما قد سبروه من أخلاق الانبياء في معاملتهم والسير في دعوتهم وما وجدوه في كتبهم.
وهذه وقفات مع حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح البخاري 7 من سؤالات هرقل لأبي سفيان حال كفره وهو ببلاد الشام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من ذلك:
أن ابا سفيان بن حرب :وهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبدمناف.
وأن هرقل: هو ملك الروم, وهرقل: اسمه, وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف, ولقبه قيصر.
أرسل اليه في ركب من قريش: أي في جماعة منهم حينما بلغه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها ابا سفيان وكفار قريش أي مدة صلح الحديبية, فأتوه بأيليا , وايليا معناها بيت الله, فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم, ثم دعاهم ودعا بترجمانه, بفتح التاء وضم الجيم, ويجوز الضم فيهما , ويجوز الفتح فيهما ايضا, وهو المعبر عن لغة بلغة.
فقال ايكم اقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم انه نبي: وهذا قول الترجمان على لسان هرقل, فقال ابوسفيان فقلت انا اقربهم نسبا وهذا يدل على ان هرقل كان رجلا فطنا, وانما طلب الاقرب نسبا (لانه احرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره, ولان الابعد لا يؤمن ان يقدح في نسبه بخلاف الاقرب وظهر ذلك في سؤاله بعد ذلك)الفتح1/43 ولان طعنه فيه طعنه في نفسه. وابو سفيان يلتقي نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الاب الرابع وهو عبد مناف .
فقال: ادنوه مني وقربوا منه اصحابه واجعلوهم عند ظهره اي لئلا يستحيوا ان يواجهوه بالتكذيب إن كذب.
قال: فوالله لولا الحيا ان يؤثروا علي كذبا لكذبت عليه, وهذه من اخلاق العرب العظيمة في جاهليتها فضلا عن اسلامها, وفي الحديث عن ابي هريرةرضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لاتمم صالح الاخلاق)قال ابن عبد البر هو حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة و غيره. , فالعرب لم تكن كل أخلاقها سيئة بل عندهم من المكارم وهذه منها. وهو يعلم انه لو كذب لم يكذبوه لاشتراكهم في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ولكني كنت امرئ سيدا اتكرم عن الكذب.
ثم كان اول ماسألني عنه: أن قال: كيف نسبه فيكم ؟ قلت هو فينا ذو نسب.....فقال لترجمان: قل له سألتك عن نسبه فذكرت انه فيكم ذو نسب, فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها, (والظاهر ان إخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرر عنده في الكتب السالفة)الفتح1/45 ولا انه رجل يصنع لنفسه مجدا وشهرة,
ولان قوة النسب أدعى للقبول , لاسيما في قلوب اقوام تشربت قلوبهم بلوث الجاهلية.
قال: فهل قال القول منكم احد قط ؟ قلت: لا.... فقلت لو كان احد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله. ولأن القول يبقى وصاحبه قد يموت, فيأتي من بعده فيعجبهم فيحيونه, وكم من الاقوال والمعتقدات الباطلة التي ماتت ومات اصحابها, ثم يأتي أناس في هذه الازمان فينعشونها ويفتنون الناس بها.
قال: فهل كان من ابائه من ملك ؟ قلت: لا ....قلت: فلو كان من ابائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك ابيه.
(من ملك) بكسر ميم من وكسر اللام وكذا فتح ميم من وفتح اللام , وكلها تؤدي لمعنى واحد, والحامل رغبة في الجاه والملك وثأرا لما لحق الملك واهله.
وفي ذلك يقول امرئ القيس حينما ذهب يطلب ملك أبيه:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه****و ايقن انا لاحقان بقيصــــــــــــــــرا
فقلت له لا تبكـــــــــــــــــــــي عيناك إنما****نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفأؤهم ؟ فقلت: بل ضعفاؤهم.... وهم أتباع الرسل.
والمراد بالاشراف هنا أهل النخوة والتكبرمنهم , لا كل شريف, حتى لا يرد مثل ابي بكر وعمر وامثالهم ممن اسلم قبل هذا السؤال...وهو محمول على الاكثر الاغلب)الفتح1/44 , (وانما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الاشراف وصعوبة الانفكاك عنها, والانفة من الانقياد للغير, والفقير خلي من تلك الموانع, فهو سريع الى الاجابة والانقياد. وهذا غالب احوال اهل الدنيا)تفسير القرطبي5/354 . وفي الحديث:عن ابن عباس رضي الله عنهما (اطلعت في الجنة فرايت اكثر أهلها الفقراء)البخاري3241 ومسلم2838 .
قال أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت: بل يزيدون....وكذلك أمر الايمان حتى يتم. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابي هريرة فقال: ( بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ)مسلم145 قال النووي: (قال القاضي: وظاهر الحديث العموم, وأن الاسلام بدأ في أحاد وقله, ثم انتشر وظهر ....)شرح مسلم, وقال تعالى: (اذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا).
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت لا....وكذلك الايمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وقوله سخطة ) بضم اوله وفتحه, واخرج بهذا من ارتد مكرها, او لا لسخط لدين الاسلام بل لرغبة في غيره كحظ نفساني)الفتح1/44, وبشاشة القلوب وهو اللقاء الفرح والانشراح به , فإذا خالط الايمان بشاشة القلب فإنه لا ينفك عنه الا أن تذهب الروح معه, وفي الحديث: عن خباب بن الارت (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الارض, فيجعل فيها, ثم يؤتى بالمنشار, فيوضع على رأسه فيجعل نصفين, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه)البخاري6943 .
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت لا....فقد اعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
والمراد في حديث الناس, لان السؤال عن صدقه قبل ان يدعوهم الى الاسلام, وعبر بالتهمة له من جهتهم ولم يصرح بالتكذيب له, تقرير منه بصدقه, واذا انتفت التهمه انتفى سببها. فقد كانوا يسمونه قبل أن يبعث اليه بالصادق وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما (...أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم, أكنتم مصدقي ؟ قالوا: ما جربنا عليك الا صدقا..)البخاري4770 .
قال: فهل يغدر ؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة....وكذلك الرسل لا تغدر.
(اي انتقصه بها... ومع ذلك لم يلتفت هرقل لمقولته تلك, وقال: وكذلك الرسل لا تغدر, لانها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر , بخلاف من طلب الآخرة)الفتح44,46 .
وفي الحديث: (ولما جئ بعبدالله بن سرح –وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ارتد ولحق بالمشركين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله- الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, بعد ما إطمأن أهل مكة وطلب له الامان عثمان رضي الله عنه, صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: نعم فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما صمت الا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه), فقال رجل من الانصار: فهلا أومأت الي يا رسول الله, فقال: (إن النبي لا تكون له خائنة أعين)الصحيحة1723 .
الخطبة الثانية:
قال: فهل قاتلتموه ؟ قلت نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه.
والسجال: بكسر أوله, أي نوب, والسجل الدلو, فتارة له وتارة لنا, وهكذا إقتضت حكمة الله قال تعالى: (وتلك الايام نداولها بين الناس), (قيل: هذا في الحرب , تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه, ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم, فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون)تفسير القرطبي3/116 . ولو كان النصر للمسلمين دائما لدخل الناس في الدين , ولما تميز المبطل من الصادق و لا المؤمن من المنافق, قال تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)ال عمران141 .
قال ماذا يأمركم ؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة.
وقوله: ولا تشركوا به شيئا, غمز بدين النصارى الذي يقول بالتثليث, قال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة), فيستثير بها هرقل على النبي صلى الله عليه وسلم, وهنا لم يبين ابو سفيان مراده كما بين في الاولى, ولعله لم يرد الا شرح ما وجد من دعوت نبينا صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر من مكارم الدين الذي يدعوا إليه ولعله من المألوف عندهم .
ثم قال هرقل: (فان كان ماتقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين, وقد كنت أعلم أنه خارج لم اكن اظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص اليه لتجشمت لقاءه – أي تكلف الوصول اليه – ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه – مبالغة في العبودية له والخدمة – ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية الى عظيم بصرى فدفعه الى هرقل فقرأه.
قال ابوسفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب – وهو اللغط واختلاط الاصوات في المخاصمة – وارتفعت الاصوات وأخرجنا, فقلت لاصحابي حين أخرجنا: لقد أمر – بفتح الهمزة وكسر الميم أي عظم - أمر ابن أبي كبشة – والمراد التنقص من النبي لأن عادة العرب إذا إنتقصت نسبت الى جد غامض, فقيل هو جده لأمه, وقيل هو جد عبدالمطلب لأمه, وقيل أبوه من الرضاعة وقيل غير ذلك – إنه يخافه ملك بني الاصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الاسلام.
ثم كان من أمره أن قال لقومه: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي, فحاصوا حيصة حمر الوحش الى الابواب فوجدوها قد غلقت, فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الايمان قال: ردوهم علي وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت . فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل.
الله يجزيك خير ابي عبدالله ..
ردحذفجزاك الله خير
ردحذفمثل هذه الخطب تعلمنا العبر من الامم الاي قبلنا
جزاك الله خير يابو عبد الله.
ردحذفشكرا وجزاك الله خير
ردحذف