خطبة مكتوبة، شهر صفر، بقلم ابي عبدالله فهمي البوري
خطبة جمعة
بعنوان: شهر صفر
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا, وسيئات اعمالنا ,من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, واشهد ان لا اله الا الله, وحده لا شريك له, واشهد ان محمدا عبده ورسوله.
(يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون)
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ان الله كان عليكم رقيبا)
(يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا . يصلح لكم اعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
((اما بعد :
فان خير الحديث كتاب الله, و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الامور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار)) .
وبعد :
سبب التسمية:
(وصفر: الشهر الذي بعد المحرم, وقال بعضهم: انما سمي صفرا لانهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع, وقال بعضهم: سمي بذلك لاصفار مكة من اهلها اذا سافروا, وروي عن رؤبة انه قال سموا الشهر صفرا لانهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفرا من المتاع ... في الحديث:لا عدوى ولا هامة ولا صفر, قال ابو عبيد: فسر الذي روى الحديث ان صفر دواب البطن. وقال ابو عبيد سمعت يونس سأل رؤبة عن الصفر, فقال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس, قال: وهي اعدى من الجرب عند العرب , قال ابو عبيد: فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم انها تعدي, قال: ويقال انها تشتد على الانسان وتؤذيه اذا جاع, قال ابو عبيد: في قوله ولا صفر: يقال في الصفر ايضا انه اراد به النسئ الذي كانوا يفعلونه في الجاهليه, وهو تاخيرهم المحرم الى صفر في تحريمه ويجعلون صفر هو الشهر الحرام فأبطله ).لسان العرب لابن منظور.
وقوله تعالى: {( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين)التوبة37 قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر هكذا يقرأ أكثر الأئمة . قال النحاس : ولم يرو أحد عن نافع فيما علمناه " إنما النسي " بلا همز إلا ورش وحده . وهو مشتق من نسأه وأنسأه إذا أخره ، حكى اللغتين الكسائي . الجوهري : " النسيء " : فعيل بمعنى مفعول ، من قولك : نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته . ثم يحول منسوء إلى نسيء كما يحول مقتول إلى قتيل . ورجل ناسئ وقوم نسأة ، مثل فاسق وفسقة . قال الطبري : النسيء بالهمزة معناه الزيادة نسأ ينسأ إذا زاد . قال : ولا يكون بترك الهمز إلا من النسيان ، كما قال تعالى : نسوا الله فنسيهم ، ورد على نافع قراءته ، واحتج بأن قال : إنه يتعدى بحرف الجر يقال : نسأ الله في أجلك كما تقول زاد الله في أجلك ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه . قال الأزهري : أنسأت الشيء إنساء ، ونسيئا اسم وضع موضع المصدر الحقيقي . وكانوا يحرمون القتال في المحرم فإذا احتاجوا إلى ذلك حرموا صفرا بدله وقاتلوا في المحرم . وسبب ذلك أن العرب كانت أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها ، وقالوا : لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكن . فكانوا إذا صدروا عن منى يقوم من بني كنانة ، ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس ، فيقول أنا الذي لا يرد لي قضاء . فيقولون : أنسئنا شهرا ، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم . فكانوا كذلك شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها . فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه . وهذا معنى قوله عليه السلام : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . وقال مجاهد : كان المشركون يحجون في كل شهر عامين ، فحجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة . ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة ، فذلك قوله في خطبته : إن الزمان قد استدار . . . الحديث . أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها ، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء . وقول ثالث . قال إياس بن معاوية : كان المشركون يحسبون السنة اثني عشر شهرا وخمسة عشر يوما ، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة ، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يوما فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة ، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر ، ووافق ذلك الأهلة . وهذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الزمان قد استدار . . . أي زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عينه الله يوم خلق السماوات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه ، ونفذ بها حكمه . ثم قال : السنة اثنا عشر شهرا . ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنة - وهي الخمسة عشر يوما - بتحكمهم ، فتعين الوقت الأصلي وبطل التحكم الجهلي . . . واختلف أهل التأويل في أول من نسأ ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك : بنو مالك بن كنانة ، وكانوا ثلاثة . وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف . وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة ، ثم كان بعده رجل يقال له : جنادة بن عوف ، وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الزهري : حي من بني كنانة ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس واسمه حذيفة بن عبيد . وفي رواية : مالك بن كنانة . وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة
لتريس العرب اياه. وفي ذلك يقول شاعرهم:
ومنا ناسئ الشهر القلمس
وقال الكميت:
السنا الناسئين على معد****شهور الحل نجعلها حراما } تفسير القرطبي5/142،143،144.
سبب التشاؤم:
(وأصل هذا الاعتقاد نشأ من استخراج معنى مما يقارن هذا الشهر من الأحوال في الغالب عندهم وهو ما يكثر فيه من الرزايا بالقتال والقتل ، ذلك أن شهر صفر يقع بعد ثلاثة أشهر حرم نسقاً وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وكان العرب يتجنبون القتال والقتل في الأشهر الحرم ؛ لأنها أشهر أمن ، قال الله تعالى : { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ } الآية . فكانوا يقضون الأشهر الحرم على إحنٍ من تطلُّب الثارات والغزوات ، وتشتت حاجتهم في تلك الأشهر ، فإذا جاء صفر بادر كل من في نفسه حنق على عدوه فثاوره ، فيكثر القتل والقتال ، ولذلك قيل : إنه سمي صفراً ؛ لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوه صفراً من المتاع والمال ، أي خلواً منهما . قال الذبياني يحذر قومه من التعرض لبلاد النعمان بن الحارث ملك الشام في شهر صفر : لقد نهيت بني ذبيان عن أُقُر**** وعن تربعهم في كل أصفار
ولذلك كان من يريد العمرة منهم لا يعتمر في صفر إذ لا يأمن على نفسه ، فكان من قواعدهم في العمرة أن يقولوا : (( إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر ؛ حلّت العمرة لمن اعتمر )) على أحد تفسيرين في المراد من صفر وهو التأويل الظاهر . وقيل : أرادوا به شهر المحرم ، وأنه كان في الجاهلية يسمى صفر الأول ، وأن تسميته محرماً من اصطلاح الإسلام ، وقد ذهب إلى هذا بعض أئمة اللغة ، وأحسب أنه اشتباه ، لأن تغيير الأسماء في الأمور العامة يدخل على الناس تلبيساً لا يقصده الشارع ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خطب حجة الوداع فقال : (( أي شهر هذا ؟ )) . قال الراوي : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : (( أليس ذا الحجة ؟ )) ثم ذكر في أثناء الخطبة الأشهر الحرم ، فقال : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جماد وشعبان . فلو كان اسم المحرم اسماً جديداً ؛ لوضّحه للحاضرين الواردين من الآفاق القاصية . على أن حادثاً مثل هذا لو حدث ، لتناقله الناس ، وإنما كانوا يطلقون عليه وصفر لفظ الصفرين تغليباً .)المناهي اللفظية342-344/بكر ابوزيد.
الخطبة الثانية:
فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشاؤم بصفر . روى مسلم من حديث جابر بن عبدالله وأبي هريرة والسائب بن يزيد رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا عدوى ولا صفر )) . اتفق هؤلاء الأصحاب الثلاثة على هذا اللفظ ، وفي رواية بعضهم زيارة : (( ولا هامة ولا غول ولا طيرة ولا نوء )) . وقد اختلف العلماء في المراد من صفر في هذا الحديث ، فقيل : أراد الشهر وهو الصحيح وبه قال مالك وأبو عبيدة معمر بن المثنى ، وقيل : أراد مرضاً في البطن سُمي الصفر ، كانت العرب يعتقدونه معدياً ، وبه قال ابن وهب ومطرف وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وفيه بُعد ؛ لأن قوله : (( لا عدوى )) يغني عن قوله : (( ولا صفر )) وعلى أنه أراد الشهر فقيل : أراد إبطال النسيء ، وقيل : إراد إبطال التشاؤم بشهر صفر ، وهذا الأخير هو الظاهر عندي .
ومن صور التشاؤم في هذا الشهر:
وهو اعتقاد باطل إذْ ليس في الأيام نحس ، قال مالك رحمه الله : (( الأيام كلها أيام الله ، وإنما يفضل بعض الأيام بعضاً بما جعل الله له من الفضل فيما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسل .))
5.وقد اخترع بعض الجهلة المركبين صلاة تصلى صباح يوم الأربعاء الأخير من صفر ، وهي صلاة ذات أربع ركعات متواليات تقرأ في كل ركعة منها سور من القرآن مكررة متعددة ، وتعاد في كل ركعة ، ويدعى عقب الصلاة بدعاء معين . وهي بدعة وضلالة إذا لا تتلقى الصلوات ذوات الهيئات الخاصة إلا من قبل الشرع ، ولم يرد في هذه الصلاة من جهة الشرع أثر قوي ولا ضعيف فهي موضوعة . وليست من قبيل مطلق النوافل ؛ لأنها غير جارية على صفات الصلوات النوافل ، فليحذر المسلمون من فعلها ، ولاسيما من لهم حظ من العلم . ونعوذ بالله من علم لا ينفع وهوى متبع) من كلام ابن عاشور بتصرف.
والحمد لله.
بعنوان: شهر صفر
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا, وسيئات اعمالنا ,من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, واشهد ان لا اله الا الله, وحده لا شريك له, واشهد ان محمدا عبده ورسوله.
(يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون)
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ان الله كان عليكم رقيبا)
(يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا . يصلح لكم اعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
((اما بعد :
فان خير الحديث كتاب الله, و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الامور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار)) .
وبعد :
سبب التسمية:
(وصفر: الشهر الذي بعد المحرم, وقال بعضهم: انما سمي صفرا لانهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع, وقال بعضهم: سمي بذلك لاصفار مكة من اهلها اذا سافروا, وروي عن رؤبة انه قال سموا الشهر صفرا لانهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفرا من المتاع ... في الحديث:لا عدوى ولا هامة ولا صفر, قال ابو عبيد: فسر الذي روى الحديث ان صفر دواب البطن. وقال ابو عبيد سمعت يونس سأل رؤبة عن الصفر, فقال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس, قال: وهي اعدى من الجرب عند العرب , قال ابو عبيد: فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم انها تعدي, قال: ويقال انها تشتد على الانسان وتؤذيه اذا جاع, قال ابو عبيد: في قوله ولا صفر: يقال في الصفر ايضا انه اراد به النسئ الذي كانوا يفعلونه في الجاهليه, وهو تاخيرهم المحرم الى صفر في تحريمه ويجعلون صفر هو الشهر الحرام فأبطله ).لسان العرب لابن منظور.
وقوله تعالى: {( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين)التوبة37 قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر هكذا يقرأ أكثر الأئمة . قال النحاس : ولم يرو أحد عن نافع فيما علمناه " إنما النسي " بلا همز إلا ورش وحده . وهو مشتق من نسأه وأنسأه إذا أخره ، حكى اللغتين الكسائي . الجوهري : " النسيء " : فعيل بمعنى مفعول ، من قولك : نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته . ثم يحول منسوء إلى نسيء كما يحول مقتول إلى قتيل . ورجل ناسئ وقوم نسأة ، مثل فاسق وفسقة . قال الطبري : النسيء بالهمزة معناه الزيادة نسأ ينسأ إذا زاد . قال : ولا يكون بترك الهمز إلا من النسيان ، كما قال تعالى : نسوا الله فنسيهم ، ورد على نافع قراءته ، واحتج بأن قال : إنه يتعدى بحرف الجر يقال : نسأ الله في أجلك كما تقول زاد الله في أجلك ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه . قال الأزهري : أنسأت الشيء إنساء ، ونسيئا اسم وضع موضع المصدر الحقيقي . وكانوا يحرمون القتال في المحرم فإذا احتاجوا إلى ذلك حرموا صفرا بدله وقاتلوا في المحرم . وسبب ذلك أن العرب كانت أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها ، وقالوا : لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكن . فكانوا إذا صدروا عن منى يقوم من بني كنانة ، ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس ، فيقول أنا الذي لا يرد لي قضاء . فيقولون : أنسئنا شهرا ، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم . فكانوا كذلك شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها . فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه . وهذا معنى قوله عليه السلام : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . وقال مجاهد : كان المشركون يحجون في كل شهر عامين ، فحجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة . ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة ، فذلك قوله في خطبته : إن الزمان قد استدار . . . الحديث . أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها ، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء . وقول ثالث . قال إياس بن معاوية : كان المشركون يحسبون السنة اثني عشر شهرا وخمسة عشر يوما ، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة ، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يوما فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة ، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر ، ووافق ذلك الأهلة . وهذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الزمان قد استدار . . . أي زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عينه الله يوم خلق السماوات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه ، ونفذ بها حكمه . ثم قال : السنة اثنا عشر شهرا . ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنة - وهي الخمسة عشر يوما - بتحكمهم ، فتعين الوقت الأصلي وبطل التحكم الجهلي . . . واختلف أهل التأويل في أول من نسأ ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك : بنو مالك بن كنانة ، وكانوا ثلاثة . وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف . وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة ، ثم كان بعده رجل يقال له : جنادة بن عوف ، وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الزهري : حي من بني كنانة ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس واسمه حذيفة بن عبيد . وفي رواية : مالك بن كنانة . وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة
لتريس العرب اياه. وفي ذلك يقول شاعرهم:
ومنا ناسئ الشهر القلمس
وقال الكميت:
السنا الناسئين على معد****شهور الحل نجعلها حراما } تفسير القرطبي5/142،143،144.
سبب التشاؤم:
(وأصل هذا الاعتقاد نشأ من استخراج معنى مما يقارن هذا الشهر من الأحوال في الغالب عندهم وهو ما يكثر فيه من الرزايا بالقتال والقتل ، ذلك أن شهر صفر يقع بعد ثلاثة أشهر حرم نسقاً وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وكان العرب يتجنبون القتال والقتل في الأشهر الحرم ؛ لأنها أشهر أمن ، قال الله تعالى : { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ } الآية . فكانوا يقضون الأشهر الحرم على إحنٍ من تطلُّب الثارات والغزوات ، وتشتت حاجتهم في تلك الأشهر ، فإذا جاء صفر بادر كل من في نفسه حنق على عدوه فثاوره ، فيكثر القتل والقتال ، ولذلك قيل : إنه سمي صفراً ؛ لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوه صفراً من المتاع والمال ، أي خلواً منهما . قال الذبياني يحذر قومه من التعرض لبلاد النعمان بن الحارث ملك الشام في شهر صفر : لقد نهيت بني ذبيان عن أُقُر**** وعن تربعهم في كل أصفار
ولذلك كان من يريد العمرة منهم لا يعتمر في صفر إذ لا يأمن على نفسه ، فكان من قواعدهم في العمرة أن يقولوا : (( إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر ؛ حلّت العمرة لمن اعتمر )) على أحد تفسيرين في المراد من صفر وهو التأويل الظاهر . وقيل : أرادوا به شهر المحرم ، وأنه كان في الجاهلية يسمى صفر الأول ، وأن تسميته محرماً من اصطلاح الإسلام ، وقد ذهب إلى هذا بعض أئمة اللغة ، وأحسب أنه اشتباه ، لأن تغيير الأسماء في الأمور العامة يدخل على الناس تلبيساً لا يقصده الشارع ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خطب حجة الوداع فقال : (( أي شهر هذا ؟ )) . قال الراوي : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : (( أليس ذا الحجة ؟ )) ثم ذكر في أثناء الخطبة الأشهر الحرم ، فقال : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جماد وشعبان . فلو كان اسم المحرم اسماً جديداً ؛ لوضّحه للحاضرين الواردين من الآفاق القاصية . على أن حادثاً مثل هذا لو حدث ، لتناقله الناس ، وإنما كانوا يطلقون عليه وصفر لفظ الصفرين تغليباً .)المناهي اللفظية342-344/بكر ابوزيد.
الخطبة الثانية:
فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشاؤم بصفر . روى مسلم من حديث جابر بن عبدالله وأبي هريرة والسائب بن يزيد رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا عدوى ولا صفر )) . اتفق هؤلاء الأصحاب الثلاثة على هذا اللفظ ، وفي رواية بعضهم زيارة : (( ولا هامة ولا غول ولا طيرة ولا نوء )) . وقد اختلف العلماء في المراد من صفر في هذا الحديث ، فقيل : أراد الشهر وهو الصحيح وبه قال مالك وأبو عبيدة معمر بن المثنى ، وقيل : أراد مرضاً في البطن سُمي الصفر ، كانت العرب يعتقدونه معدياً ، وبه قال ابن وهب ومطرف وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وفيه بُعد ؛ لأن قوله : (( لا عدوى )) يغني عن قوله : (( ولا صفر )) وعلى أنه أراد الشهر فقيل : أراد إبطال النسيء ، وقيل : إراد إبطال التشاؤم بشهر صفر ، وهذا الأخير هو الظاهر عندي .
ومن صور التشاؤم في هذا الشهر:
- تجنب السفر في شهر صفر وذلك مما ترسب من بقايا الجاهلية مما قد ابطله الاسلام ونص عليه علماء المسلمين مما كانت تتخوفه الجاهلية من السير في هذا الشهر.
- اجتناب ابتداء الاعمال خشية ان لاتكون مباركة.
- وصف شهر صفر بقولهم: صفر الخير, فأما ان يراد به الرد بالنقيض او تفاؤلا لتلطيف شره, كما يقال للملدوغ سليم وللمسحور مطبوب, وايا ما كان فانه مؤذن بتأصل عقيدة التشاؤم بهذا الشهر.
- اعتقاد أن يوم الأربعاء الأخير من صفر هو أنحس أيام العام ، ومن العجب أنهم ينسبون ذلك إلى الدين الذي أوصاهم بإبطال عقائد الجاهلية ، فتكون هذه النسبة ضلالة مضاعفة ، يستندون إلى حديث موضوع يروى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر )) وقد نص الأئمة على أن هذا حديث موضوع ، فإذا ضم ذلك إلى التشاؤم بشهر صفر من بين الأشهر ؛ أنتجت هذه المقدمات الباطلة نتيجة مثلها ، وهي أن آخر أربعاء من شهر صفر أشأم أيام العام . ومن ذلك ان بعض الناس يسمونها الاربعاء الكحلاء أي السوداء ، كناية عن نحسها ؛ لأن السواد شعار الحزن والمصائب ، عكس البياض . قال أبو الطيب في الشيب : أبعد بعدت بياضاً لا بياض له**** لأنت أسود في عيني من الظلم
وهو اعتقاد باطل إذْ ليس في الأيام نحس ، قال مالك رحمه الله : (( الأيام كلها أيام الله ، وإنما يفضل بعض الأيام بعضاً بما جعل الله له من الفضل فيما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسل .))
5.وقد اخترع بعض الجهلة المركبين صلاة تصلى صباح يوم الأربعاء الأخير من صفر ، وهي صلاة ذات أربع ركعات متواليات تقرأ في كل ركعة منها سور من القرآن مكررة متعددة ، وتعاد في كل ركعة ، ويدعى عقب الصلاة بدعاء معين . وهي بدعة وضلالة إذا لا تتلقى الصلوات ذوات الهيئات الخاصة إلا من قبل الشرع ، ولم يرد في هذه الصلاة من جهة الشرع أثر قوي ولا ضعيف فهي موضوعة . وليست من قبيل مطلق النوافل ؛ لأنها غير جارية على صفات الصلوات النوافل ، فليحذر المسلمون من فعلها ، ولاسيما من لهم حظ من العلم . ونعوذ بالله من علم لا ينفع وهوى متبع) من كلام ابن عاشور بتصرف.
والحمد لله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق